الباحث السياسي الدكتور بلال اللقيس
“إسرائيل” تقاتل على عدة جبهات في ان وتتفاخر في انجازاتها وقوتها وتعتبر ان ما تقوم به هو تغيير فعلي للشرق الأوسط . لكن هل هذا التوسع والإفراط في القتل والعنف واستظهار القوة سيحقق هدفها بالأمان والردع وتطبيع وجودها في الشرق الأوسط ام سيعمق ازماتها ويزيد من تهديدها ومن التحديات امامها ، وهل ستكون قادرة على تحمل تبعات هذا “التوسع”؟؟
تقاذف الكيان الصهيوني تاريخيا رأيان حيال المستقبل وضمانه ، الاول رأى ان الحل هو في التطويع وصولا للتسليم العربي بالواقع الصهيوني والإذعان له باستخدام القوة فمزيد من القوة والرأي الثاني راى ان هذه المقاربة تزيد من متواليات التهديد وإنتاج الحروب ، فالاحتقان والإمعان في القهر والقسر سيولد مزيد من الكراهية والرغبة في الثار عبر الاجيال ويبقي الكيان في حروب مفتوحة ومرهقة ولذلك طالب باتفاقيات “سلام” مع الأنظمة العربية واعتبر ان الاتفاقيات السياسية هي الوحيدة التي اتت بالأمان ولو النسبي كما في حالة مصر كامب ديفد والأردن وادي عربة ، فهي افضل الممكن .
الشارع الإسرائيلي اليوم ممثلا بحكومته يميل الى المقاربة الاولى ولو انفعاليا ، القوة فمزيد منها فالإبادة وتتبنى الادارات الأمريكية كلها هذه الرؤية لاستنقاذ هيمنتهم المهددة في غرب آسيا، فالتعاطي مع القضية هو بإنهائها وليس بحلها حلا معقولا ولن نقول عادلا !! . اعتمد تنفيذ هذه المقاربة على وجهين متماثلين ؛ الاول يقوم على اخضاع شعب فلسطين وغزة كمقدمة حاسمة لإنهاء القضية وتكريس إسرائيل الموسعة وما يعنيه من اضعاف جبهة المقاومة ، والخط الثاني تغيير البيئة الاقليمية من خلال اضعاف جبهة المقاومة بما يودي لإنهاء قضية فلسطين كنتيجة ، فكل من الوجهين يؤدي إلى نفس النتيجة المرجوة اسرائيليا فيما لو نجحت في تحقيق اي منهما .
هذه الروية بدء تنفيذها ما بعد عملية طوفان الأقصى بدعم غربي وأمريكي مطلق وبلا شروط . أملت إسرائيل من خلالها تحقيق النصر المطلق وبوقت لا يجب ان يطول كثيرا لتجنب الاستنزاف الذي تخشاه .
الان تقفز اسراءيل من ساحة إلى ساحة وتتنمر وفي كل ساحة توجه ضربات قاسية ومؤلمة لكن المفارقة مستمرة ؛ لم تستطع ان تحسم في اي من الساحات ، آذت كثيرا لكن لم تنه ولم تصب البنية او الصميم بل حفزته مجددا . هي ترمي حممها في كل اتجاه وبقوة لكن لا تنهي اي اتجاه ، ربما تراهن على موافقة امريكية لضرب إيران في نهاية المطاف او تهيئة ظروف مناسبة للمفاوض الأمريكي على طاولة المنطقة ، هي قد تكون بوارد المغامرة كي يكتمل المشهد والا تصبح امام إنجازات معلقة !! او ان قوى المقاومة ستعود وتستفيد من مبررات إضافية لتوسعة ساحات الصراع مع عدوها !! الوقت قاتل لاسراءيل . لذلك يستمر السوال ؛ هل ما تقوم به وقامت به ياتي بالطمأنينة لها او الامان ام يزيد منسوب القلق والخوف وتقلص الردع والثقة بالمستقبل !! .
ليس من السهل الاجابة عن هذا السوال بل قد يحتار المرء كيف بجيب عليه خصوصا ان عددا غير قليل من الناس يقارب المسالة الفلسطينية بمنحى سياسي او واستراتيجي فحسب بينما هي من تلك المسائل التاريخية . ماذا يعني التاريخية ؟؟، يعني ان فلسفة السياسة حاكمة ونافذة لا تتغير ، كأن نقول على سبيل المثال : لا يمكن ان تتوقف راية الجهاد والمقاومة في مواجهة الكيان الصهيوني أبدا وهناك دوما من سيحملها ويكمل بها تخلى من تخلى !! ، فاذا سقطت جماعة او فئة سرعان ما تنهض بها اخرى حتى بلوغ هذا الصراع نهايته الواقعية والصحيحة . وايضا فلسفة التاريخ تفيد انه كلما زاد التوحش زاد رد الفعل عليه في المجتمعات المعتدة بهويتها وقيمها ، وكلما ازدادت العسف عمقت عند الاحرار مسوغاتهم للعمل والعطاء والحركة والإرادة والتصميم والعزم والوعي وتطوير الفهم لهذه المواجهة والتقدم بها واحداث موجة اعلى وارقى من الفعل المقاوم .
هذه معركة ارادة ووعي واجيال وتحول اجتماعي وفكري وليست معركة عسكرية الجانب ، هذه معركة النظام العالمي المقبل وسماته .
عند كل سقوط وفشل عربي ، كانت تقوى المقاومة ولا تضعف ، يتوافر لها أسباب الاستمرار وتضرم النار في أوارها . هكذا المسار منذ ١٩٤٨ إلى ١٩٥٦ الى ١٩٦٧ إلى ١٩٧٨ إلى. ١٩٨٢ إلى ٢٠٠. إلى ٢٠٠٦. إلى .. إلى طوفان الأقصى وما تلاه من حرب الغربية الاسرائيلية على لبنان التي اعتبرت الاخطر في تاريخه .
نعود فنقول ، ان تمدد إسرائيل وتوسعها يعني عمليا تقسيم المنطقة وتحقق الشرق الأوسط الجديد ، الحلم الصهيوني التاريخي . جميعنا كان يفضل لو لم تتواطأ حكوماتنا على شعوبها وتمنح الأمريكي فرصا او امكانية للشرق الأوسط الجديد . والمؤسف انا قوم لا نتعلم ، تركيا تعيد لتوها نفس خطا المملكة السعودية حين شرعت الأخيرة أبوابها لاسقاط العراق وأضعافه كمقدمة ايضا لقطع “راس الافعى” وتقصد بذلك ايران ، فتتربع على عرش الخليج الكبير كوكيلة حصرية للولايات المتحدة !! المشهد اخطر بكثير على تركيا منه على السعودية ، الاولى تحمل بذور التباعد والتفاوت الداخلي بين مكوناتها والاختلاف حتى في الدائرة الاسلامية منها ( برز ذلك بوضوح بالتعاطي مع طوفان الأقصى والحرب على غزة بين تيار أربكان ووضوحه في مسالة دعم فلسطين وعدائه لإسرائيل وتيار اردوغان البراغماتي والذي تحركه العثمانية اولًا وعقلية الفاتح ) ولو انها تحاول التعديل في التكتيكات عن اخطاء المملكة ( هذا لا يعني الدفاع عن النظام السابق حيال شعبه ، فعموم أنظمة العرب سواء في علاقتهم بشعوبهم ).
بقيت مقاومة لبنان حية رغم ما تعرضت له من ضربات ، وسرعان ما انتقلت إسرائيل إلى سوريا بترتيبات كاملة مع الأمريكي ، وبتقاطعات أمريكية تركية ايضا .
لكن ما هي فرص نجاح هذه الخطوة تركيا وأمريكيا ، وهل سوريا ستكون كالعراق بوابة تغيير المنطقة ، وباي اتجاه ؟؟، وهل فرحة الايام الاولى ستستمر ام انها تحمل بذور مخاطر كبرى على الغرب والكيان الصهيونى في المدى المتوسط والبعيد وعلى تركيا .
في الاجابة ننوه :
تعاني اميركا لتنفيذ مخططها اليوم من عدة نقاط ضعف اساسية ستؤثر على الناتج :
اولا دوافع الادارة الصهيونية المتمثلة بادارة نتانياهو تبدو مشوشة وليست واضحة ، ويتداخل فيها الشخصي بالأيديولوجي بالسياسي ب…
المقومات الداخلية في كيان العدو لم تعد كالماضي ، الاجتماع في إسرائيل متفسخ فعلا وفاقد للتوازن الداخلي وتتقلبه الشعبوية اكثر من المعيارية والقانونية .
بنية جبهة المقاومة اليوم هي افضل بكثير مما مضى لجهة امتدادها وانجذاب الناس اليها ، ورغبة الشعوب بالانتقام من اميركا .
حالة المراجعة الجارية في مجتمعات الغرب لقيمهم وسلوكهم السياسي بعد انفضاح الزيف .
عدم تحقيق اسراءيل اهدافها الفعلية في غزة حتى الان ، وعجزها في تحقيق هدفها الفعلي من حربها على لبنان ( الردع ، الأمان للسكان المستوطنين ، اخضاع المقاومة واضعاف التفاف الناس ، تغيير الوضع السياسي اللبناني وبنية النظام وإنهاء ركيزة القوة عند حزب الله ) ؛ فإسرائيل التي تعلم انه اذا انتهت المقاومة في غزة انتهى مبرر محور القدس وتغير النطام الاقليمي لصالحها ‘ واذا سقط محور القدس بضربة قاتلة او ضُربت خلاياه الجذعية او فقد توازنه فلن يعد يقوى على النهوض البتة فتنتهي قضية القدس وفلسطين،، لكن الامرين لم يتحققا حتى اللحظة ولا زال المشوار طويلا اليهما.
البيئة الدولية ليست مسهمدة كما كانت في ١١ ايلول ، هناك تغيرات اصابت كل شيء في العالم من اوروبا إلى الصين وروسيا وأفريقيا وهناك تتزايد الدول التي لم تعد تساير أميركا ، وغيرهم بات يمتلك شجاعة مخالفتها .
احتمالات الحروب والصراعات الكبرى في العالم تتزايد .
الأنظمة العربية التي امّنت التنفس والاستمرار لاسراءيل باتت في قلق وحالة تردي وجزع وخوف من كل شيء ، وشعوبها صارت اكثر جرأة وارادة في المشاركة بالمصير واسترداد الكرامة المهدورة وتغيير واقعها .
الحالة الإسلامية-الإسلامية غير جاهزة للتصادم بعد عقد دام مضى بل تنظر إلى ما هيأته فلسطين وطوفان الأقصى من فرصة تقارب غير مسبوقة ومشترك كبير في تاريخنا الحديث .
تحفز قوى المقاومة في المنطقة وتعالي موجها مع الاجيال وتعمق الشعور بالحاجة اليها . تبدو موجة كل جيل اعلى من سابقه ( بالأمس كان جيل الخمسينات يفشل امام إسرائيل ويستسلم لقوّتها ، بينما اليوم اجيالنا تقارعها وتمنعها حتى من احتلال قرى على الشريط الحدودي من مسافة صفر رغم ضراوة الحرب و٦٦ يوم قتال واكثر ) ، اجيالنا كانت تقصف مدنها بينما الجيل الحالي يقصف تل ابيب وحيفا ودون توقف .
السعودية والخليج لم تعد بنفس الحماسة لموافاة اميركا في مساعيها ، اولا لان السعودية تحولت إلى دولة رفاه وتبحث عن الامن والاستقرار ثانيا لانها اخذت الدرس من حرب اليمن ثالثا لانها باتت تقترب من قناعة ان اميركا تفضل الخيار التركي على السعودي ، فالأول يبدو اكثر اغراءا وقدرة على مجاراة المشاريع الأمريكية وركوب موجتها . لذلك السعودية والممالك عموما ليسوا مرتاحين لهذا المنهج الأمريكي الذي عظم من دور تركيا وقطر وخفض من ادوار البقية .
قلق الأنظمة العسكرية العربية والممالك من نجاح تركيا في سوريا لانه سيعود ويطرح العثمانية ويعلنها حتى لو انه اضطرّ لإخفائها بعض الشيء اليوم لمصالح معلومة ، لذلك يعتريهم خوف شديد ، وقلق ولو غير معلن .
قوى المقاومة في المنطقة صارت من النوع الذي لا يهزم مهما تلقى من ضربات قاسية ، ومهما افرطوا في القوة بمواجهته.
ايران اقوى بكثير وأقدر واخبر ، نجحت ان تصل يدها إلى قلب الكيان وتبصم بصمتها المباشرة الاولى ولديها شبكة علاقات اجتماعية متينة وعميقة في المنطقة وعلى اسس صلبة ، ناهيك انها استفادت من نتايج طوفان الاقصى وحرب لبنان الاخيرة وعبرة إسقاط الغرب لسوريا وغيره ، استفادت لاقناع المجتمعات والدول بأهمية بدء مشروع مواجهة الحضور الأمريكي غير المأمون حتى لحلفائه . واستفاد العراق الذي لاحظنا له إسهام معتد به في الصراع إلى جانب غزة وإسناد جبهة المقاومة .
بناء على كل ما تقدم :
نظن ان اسراءيل جاءت متاخرة جدا في خطواتها لتغيير المنطقة ، الواقع أصعب من طموحاتها، قد تصل في نهاية المطاف إلى مواجهة إيران مرهقة متعبة يضربها التشرذم والاكلاف وغياب الأفق والحلول ، هي تحاول ان تبني مجددا جيش كبير بدل الصغير الرشيق لكن دون ذلك قدرة المجتمع وقيمه وتبعات عسكرته ، لذلك بقدر ما يمكن اعتبار خطواتها قفزات الى الامام و”نجاحات” بقدر ما يمكن النظر اليهم انهم اقرب الى المبالغة في المحاولة وخطوة اكبر من قدرتها الفعلية الواقعية ، فأميركا بما هي هي عندما وسعت حضورها العسكري ومّدها سرعان ما اصطدمت بالواقع ، ولا تبدو هذه المحاولة بظروفها وسياقها ومقوماتها ونتائجها المتوقعة اكثر من محاولة ما بعد ١١ ايلول الامريكية ، والأخيرة لم تكن بالمستوى المأمول غربيا ولا عربيا .
اسراءيل تتنقل بين الساحات وتفتح المعارك ولا تنجح في إغلاق اي منها ولا تراها تمتلك تصورا إلا انتظار ترامب ، وغير اكيد ان ترامب سيفتح الحروب ويرهق اميركا بها !! . ان ما تقوم به اليوم يشبه إلى حد كبير ما قامت به اميركا عندما اصابها غرور القوة والعسكرة وغزت العراق واحتلته واسقطت نظاما عربيا محوريا وطوقت ايران بين افغانستان والعراق والخليج . لكن كانت النتيجة ان غرقت في الوحول وقوي اعداؤها وخصومها وتهددت شرعية حلفائها وكياناتهم مع الفارق ان اميركا لا يتهدد امنها المباشر لبعدها الجغرافي بينما الوكيل الإسرائيلي يقع في قلب المنطقة الملتهبة .
اسرائيل قامت بحربها على لبنان وتراها عادت إلى ١٧٠١ مع إنجازات تكتية ، وتدير حربا مجنونة على غزة لسنة وأشهر ولم تحسم النتيجة بعد وربما تكون الخاتمة بالعودة إلى حل الدولتين الذي صار مطلب الحد الادنى عالميا وعربيا وفلسطينيا ، ولم تجب في كلتا المعركتين الاستثنائيتين عن الاسئلة المركزية التي خرجت لاجلها .
ثم عادت لتفتح ملف سوريا واحتمال الفرص فيه ربما يتساوى مع التهديد مستقبلا ! والان دخلت بقوة على ملف اليمن وقد يطول الاستنزاف والإرهاق وهناك كلام انها تتحضر لضرب ايران … الإنجازات التكتية او العسكرية تجعله يعيش النشوة وتنسيه ان ما بعد المد قد يكون جزر !!! لماذا ؟؟ لان البيئة الاقليمية اليوم تغلب فيها الارادة المقاومة والهوى والقرار الشعبي المقاوم . بيئة يوجد فيها لجبهة المقاومة حضور وعلاقات عميقة وممتدة في كل مجتمع ومتشابكة عمدت بالدم وبوحدة الهدف والقضية بمواجهة الهيمنة الأمريكية الغربية والصهيونية .
لذلك لن نكون بعيدين زمانيا عن توسع جبهات المقاومة وتعقدها على إسرائيل وبدء رد الفعل التاريخي .
ان العدو يخطو خطوات ويفترض ان ما يقوم به يحقق ضمانا له لكن قد يكون العكس هو ما سيحدث ! . وهو ما يجب مراقبته والتأثير في صناعته بحيث نحول كل ساحة من ساحاتنا لساحة مقاومة واستنزاف للعدو لنشكل سوية ويدا بيد جبهة مقاومة فعلية تعتمد على ذاتها وعلى استقلال قرارها وقدراتها في كل جغرافيا وساحة ؛ تحفظ فيها كياناتنا ونتجنب الاصطراعات الداخلية ونولي الاولوية لسيادة البلاد وحفظ الهوية وطرد المحتل ويكون قتالنا بمبررات تامة دينية واخلاقية وسياسية ووطنية وقاونوية ، ولن يتاخر الوقت حتى تكتشف اسراءيل انها استعجلت في التقدير وأخذتها العزة بالإثم والقوة كما حدث عام ١٩٨٢ ، وان خطوتها أعطت مسوغات اكبر واقوى لبدء مرحلة خلق شرعية شعبية حقه في كل دولنا لتحرير الارض وتحرر الانسان ووحدة الكلمة في مواجهة العدو الاول للامة والإنسان والأنظمة الظالمة . فما ضربه الكيان في حربه الاخيرة علينا لا شك انه اصاب خلايا في جسد جبهة المقاومة في لبنان وفلسطين ونعترف بذلك لكنه عجز رغم “فرصة العمر” ان يصل إلى الخلايا الجذعية والنخاع الشوكيّ ونقطة التوازن لهذه المقاومة بل صارت خلايانا الجذعية اقدر على الإنتاج والضخ في الجسد مستفيدة من التجربة ومجددة لها، وتبقى معضلة الكيان دون حل .
اسراءيل تقاتل على عدة جبهات في ان وتتفاخر في انجازاتها وقوتها وتعتبر ان ما تقوم به هو تغيير فعلي للشرق الأوسط . لكن هل هذا التوسع والإفراط في القتل والعنف واستظهار القوة سيحقق هدفها بالأمان والردع وتطبيع وجودها في الشرق الأوسط ام سيعمق ازماتها ويزيد من تهديدها ومن التحديات امامها ، وهل ستكون قادرة على تحمل تبعات هذا “التوسع”؟؟
تقاذف الكيان الصهيوني تاريخيا رأيان حيال المستقبل وضمانه ، الاول رأى ان الحل هو في التطويع وصولا للتسليم العربي بالواقع الصهيوني والإذعان له باستخدام القوة فمزيد من القوة والرأي الثاني راى ان هذه المقاربة تزيد من متواليات التهديد وإنتاج الحروب ، فالاحتقان والإمعان في القهر والقسر سيولد مزيد من الكراهية والرغبة في الثار عبر الاجيال ويبقي الكيان في حروب مفتوحة ومرهقة ولذلك طالب باتفاقيات “سلام” مع الأنظمة العربية واعتبر ان الاتفاقيات السياسية هي الوحيدة التي اتت بالأمان ولو النسبي كما في حالة مصر كامب ديفد والأردن وادي عربة ، فهي افضل الممكن .
الشارع الإسرائيلي اليوم ممثلا بحكومته يميل الى المقاربة الاولى ولو انفعاليا ، القوة فمزيد منها فالإبادة وتتبنى الادارات الأمريكية كلها هذه الرؤية لاستنقاذ هيمنتهم المهددة في غرب آسيا، فالتعاطي مع القضية هو بإنهائها وليس بحلها حلا معقولا ولن نقول عادلا !! . اعتمد تنفيذ هذه المقاربة على وجهين متماثلين ؛ الاول يقوم على اخضاع شعب فلسطين وغزة كمقدمة حاسمة لإنهاء القضية وتكريس إسرائيل الموسعة وما يعنيه من اضعاف جبهة المقاومة ، والخط الثاني تغيير البيئة الاقليمية من خلال اضعاف جبهة المقاومة بما يودي لإنهاء قضية فلسطين كنتيجة ، فكل من الوجهين يؤدي إلى نفس النتيجة المرجوة اسرائيليا فيما لو نجحت في تحقيق اي منهما .
هذه الروية بدء تنفيذها ما بعد عملية طوفان الأقصى بدعم غربي وأمريكي مطلق وبلا شروط . أملت إسرائيل من خلالها تحقيق النصر المطلق وبوقت لا يجب ان يطول كثيرا لتجنب الاستنزاف الذي تخشاه .
الان تقفز اسراءيل من ساحة إلى ساحة وتتنمر وفي كل ساحة توجه ضربات قاسية ومؤلمة لكن المفارقة مستمرة ؛ لم تستطع ان تحسم في اي من الساحات ، آذت كثيرا لكن لم تنه ولم تصب البنية او الصميم بل حفزته مجددا . هي ترمي حممها في كل اتجاه وبقوة لكن لا تنهي اي اتجاه ، ربما تراهن على موافقة امريكية لضرب إيران في نهاية المطاف او تهيئة ظروف مناسبة للمفاوض الأمريكي على طاولة المنطقة ، هي قد تكون بوارد المغامرة كي يكتمل المشهد والا تصبح امام إنجازات معلقة !! او ان قوى المقاومة ستعود وتستفيد من مبررات إضافية لتوسعة ساحات الصراع مع عدوها !! الوقت قاتل لاسراءيل . لذلك يستمر السوال ؛ هل ما تقوم به وقامت به ياتي بالطمأنينة لها او الامان ام يزيد منسوب القلق والخوف وتقلص الردع والثقة بالمستقبل !! .
ليس من السهل الاجابة عن هذا السوال بل قد يحتار المرء كيف بجيب عليه خصوصا ان عددا غير قليل من الناس يقارب المسالة الفلسطينية بمنحى سياسي او واستراتيجي فحسب بينما هي من تلك المسائل التاريخية . ماذا يعني التاريخية ؟؟، يعني ان فلسفة السياسة حاكمة ونافذة لا تتغير ، كأن نقول على سبيل المثال : لا يمكن ان تتوقف راية الجهاد والمقاومة في مواجهة الكيان الصهيوني أبدا وهناك دوما من سيحملها ويكمل بها تخلى من تخلى !! ، فاذا سقطت جماعة او فئة سرعان ما تنهض بها اخرى حتى بلوغ هذا الصراع نهايته الواقعية والصحيحة . وايضا فلسفة التاريخ تفيد انه كلما زاد التوحش زاد رد الفعل عليه في المجتمعات المعتدة بهويتها وقيمها ، وكلما ازدادت العسف عمقت عند الاحرار مسوغاتهم للعمل والعطاء والحركة والإرادة والتصميم والعزم والوعي وتطوير الفهم لهذه المواجهة والتقدم بها واحداث موجة اعلى وارقى من الفعل المقاوم .
هذه معركة ارادة ووعي واجيال وتحول اجتماعي وفكري وليست معركة عسكرية الجانب ، هذه معركة النظام العالمي المقبل وسماته .
عند كل سقوط وفشل عربي ، كانت تقوى المقاومة ولا تضعف ، يتوافر لها أسباب الاستمرار وتضرم النار في أوارها . هكذا المسار منذ ١٩٤٨ إلى ١٩٥٦ الى ١٩٦٧ إلى ١٩٧٨ إلى. ١٩٨٢ إلى ٢٠٠. إلى ٢٠٠٦. إلى .. إلى طوفان الأقصى وما تلاه من حرب الغربية الاسرائيلية على لبنان التي اعتبرت الاخطر في تاريخه .
نعود فنقول ، ان تمدد إسرائيل وتوسعها يعني عمليا تقسيم المنطقة وتحقق الشرق الأوسط الجديد ، الحلم الصهيوني التاريخي . جميعنا كان يفضل لو لم تتواطأ حكوماتنا على شعوبها وتمنح الأمريكي فرصا او امكانية للشرق الأوسط الجديد . والمؤسف انا قوم لا نتعلم ، تركيا تعيد لتوها نفس خطا المملكة السعودية حين شرعت الأخيرة أبوابها لاسقاط العراق وأضعافه كمقدمة ايضا لقطع “راس الافعى” وتقصد بذلك ايران ، فتتربع على عرش الخليج الكبير كوكيلة حصرية للولايات المتحدة !! المشهد اخطر بكثير على تركيا منه على السعودية ، الاولى تحمل بذور التباعد والتفاوت الداخلي بين مكوناتها والاختلاف حتى في الدائرة الاسلامية منها ( برز ذلك بوضوح بالتعاطي مع طوفان الأقصى والحرب على غزة بين تيار أربكان ووضوحه في مسالة دعم فلسطين وعدائه لإسرائيل وتيار اردوغان البراغماتي والذي تحركه العثمانية اولًا وعقلية الفاتح ) ولو انها تحاول التعديل في التكتيكات عن اخطاء المملكة ( هذا لا يعني الدفاع عن النظام السابق حيال شعبه ، فعموم أنظمة العرب سواء في علاقتهم بشعوبهم ).
بقيت مقاومة لبنان حية رغم ما تعرضت له من ضربات ، وسرعان ما انتقلت إسرائيل إلى سوريا بترتيبات كاملة مع الأمريكي ، وبتقاطعات أمريكية تركية ايضا .
لكن ما هي فرص نجاح هذه الخطوة تركيا وأمريكيا ، وهل سوريا ستكون كالعراق بوابة تغيير المنطقة ، وباي اتجاه ؟؟، وهل فرحة الايام الاولى ستستمر ام انها تحمل بذور مخاطر كبرى على الغرب والكيان الصهيونى في المدى المتوسط والبعيد وعلى تركيا .
في الاجابة ننوه :
تعاني اميركا لتنفيذ مخططها اليوم من عدة نقاط ضعف اساسية ستؤثر على الناتج :
اولا دوافع الادارة الصهيونية المتمثلة بادارة نتانياهو تبدو مشوشة وليست واضحة ، ويتداخل فيها الشخصي بالأيديولوجي بالسياسي ب…
المقومات الداخلية في كيان العدو لم تعد كالماضي ، الاجتماع في إسرائيل متفسخ فعلا وفاقد للتوازن الداخلي وتتقلبه الشعبوية اكثر من المعيارية والقانونية .
بنية جبهة المقاومة اليوم هي افضل بكثير مما مضى لجهة امتدادها وانجذاب الناس اليها ، ورغبة الشعوب بالانتقام من اميركا .
حالة المراجعة الجارية في مجتمعات الغرب لقيمهم وسلوكهم السياسي بعد انفضاح الزيف .
عدم تحقيق اسراءيل اهدافها الفعلية في غزة حتى الان ، وعجزها في تحقيق هدفها الفعلي من حربها على لبنان ( الردع ، الأمان للسكان المستوطنين ، اخضاع المقاومة واضعاف التفاف الناس ، تغيير الوضع السياسي اللبناني وبنية النظام وإنهاء ركيزة القوة عند حزب الله ) ؛ فإسرائيل التي تعلم انه اذا انتهت المقاومة في غزة انتهى مبرر محور القدس وتغير النطام الاقليمي لصالحها ‘ واذا سقط محور القدس بضربة قاتلة او ضُربت خلاياه الجذعية او فقد توازنه فلن يعد يقوى على النهوض البتة فتنتهي قضية القدس وفلسطين،، لكن الامرين لم يتحققا حتى اللحظة ولا زال المشوار طويلا اليهما.
البيئة الدولية ليست مسهمدة كما كانت في ١١ ايلول ، هناك تغيرات اصابت كل شيء في العالم من اوروبا إلى الصين وروسيا وأفريقيا وهناك تتزايد الدول التي لم تعد تساير أميركا ، وغيرهم بات يمتلك شجاعة مخالفتها .
احتمالات الحروب والصراعات الكبرى في العالم تتزايد .
الأنظمة العربية التي امّنت التنفس والاستمرار لاسراءيل باتت في قلق وحالة تردي وجزع وخوف من كل شيء ، وشعوبها صارت اكثر جرأة وارادة في المشاركة بالمصير واسترداد الكرامة المهدورة وتغيير واقعها .
الحالة الإسلامية-الإسلامية غير جاهزة للتصادم بعد عقد دام مضى بل تنظر إلى ما هيأته فلسطين وطوفان الأقصى من فرصة تقارب غير مسبوقة ومشترك كبير في تاريخنا الحديث .
تحفز قوى المقاومة في المنطقة وتعالي موجها مع الاجيال وتعمق الشعور بالحاجة اليها . تبدو موجة كل جيل اعلى من سابقه ( بالأمس كان جيل الخمسينات يفشل امام إسرائيل ويستسلم لقوّتها ، بينما اليوم اجيالنا تقارعها وتمنعها حتى من احتلال قرى على الشريط الحدودي من مسافة صفر رغم ضراوة الحرب و٦٦ يوم قتال واكثر ) ، اجيالنا كانت تقصف مدنها بينما الجيل الحالي يقصف تل ابيب وحيفا ودون توقف .
السعودية والخليج لم تعد بنفس الحماسة لموافاة اميركا في مساعيها ، اولا لان السعودية تحولت إلى دولة رفاه وتبحث عن الامن والاستقرار ثانيا لانها اخذت الدرس من حرب اليمن ثالثا لانها باتت تقترب من قناعة ان اميركا تفضل الخيار التركي على السعودي ، فالأول يبدو اكثر اغراءا وقدرة على مجاراة المشاريع الأمريكية وركوب موجتها . لذلك السعودية والممالك عموما ليسوا مرتاحين لهذا المنهج الأمريكي الذي عظم من دور تركيا وقطر وخفض من ادوار البقية .
قلق الأنظمة العسكرية العربية والممالك من نجاح تركيا في سوريا لانه سيعود ويطرح العثمانية ويعلنها حتى لو انه اضطرّ لإخفائها بعض الشيء اليوم لمصالح معلومة ، لذلك يعتريهم خوف شديد ، وقلق ولو غير معلن .
قوى المقاومة في المنطقة صارت من النوع الذي لا يهزم مهما تلقى من ضربات قاسية ، ومهما افرطوا في القوة بمواجهته.
ايران اقوى بكثير وأقدر واخبر ، نجحت ان تصل يدها إلى قلب الكيان وتبصم بصمتها المباشرة الاولى ولديها شبكة علاقات اجتماعية متينة وعميقة في المنطقة وعلى اسس صلبة ، ناهيك انها استفادت من نتايج طوفان الاقصى وحرب لبنان الاخيرة وعبرة إسقاط الغرب لسوريا وغيره ، استفادت لاقناع المجتمعات والدول بأهمية بدء مشروع مواجهة الحضور الأمريكي غير المأمون حتى لحلفائه . واستفاد العراق الذي لاحظنا له إسهام معتد به في الصراع إلى جانب غزة وإسناد جبهة المقاومة .
بناء على كل ما تقدم :
نظن ان اسراءيل جاءت متاخرة جدا في خطواتها لتغيير المنطقة ، الواقع أصعب من طموحاتها، قد تصل في نهاية المطاف إلى مواجهة إيران مرهقة متعبة يضربها التشرذم والاكلاف وغياب الأفق والحلول ، هي تحاول ان تبني مجددا جيش كبير بدل الصغير الرشيق لكن دون ذلك قدرة المجتمع وقيمه وتبعات عسكرته ، لذلك بقدر ما يمكن اعتبار خطواتها قفزات الى الامام و”نجاحات” بقدر ما يمكن النظر اليهم انهم اقرب الى المبالغة في المحاولة وخطوة اكبر من قدرتها الفعلية الواقعية ، فأميركا بما هي هي عندما وسعت حضورها العسكري ومّدها سرعان ما اصطدمت بالواقع ، ولا تبدو هذه المحاولة بظروفها وسياقها ومقوماتها ونتائجها المتوقعة اكثر من محاولة ما بعد ١١ ايلول الامريكية ، والأخيرة لم تكن بالمستوى المأمول غربيا ولا عربيا .
اسراءيل تتنقل بين الساحات وتفتح المعارك ولا تنجح في إغلاق اي منها ولا تراها تمتلك تصورا إلا انتظار ترامب ، وغير اكيد ان ترامب سيفتح الحروب ويرهق اميركا بها !! . ان ما تقوم به اليوم يشبه إلى حد كبير ما قامت به اميركا عندما اصابها غرور القوة والعسكرة وغزت العراق واحتلته واسقطت نظاما عربيا محوريا وطوقت ايران بين افغانستان والعراق والخليج . لكن كانت النتيجة ان غرقت في الوحول وقوي اعداؤها وخصومها وتهددت شرعية حلفائها وكياناتهم مع الفارق ان اميركا لا يتهدد امنها المباشر لبعدها الجغرافي بينما الوكيل الإسرائيلي يقع في قلب المنطقة الملتهبة .
اسرائيل قامت بحربها على لبنان وتراها عادت إلى ١٧٠١ مع إنجازات تكتية ، وتدير حربا مجنونة على غزة لسنة وأشهر ولم تحسم النتيجة بعد وربما تكون الخاتمة بالعودة إلى حل الدولتين الذي صار مطلب الحد الادنى عالميا وعربيا وفلسطينيا ، ولم تجب في كلتا المعركتين الاستثنائيتين عن الاسئلة المركزية التي خرجت لاجلها .
ثم عادت لتفتح ملف سوريا واحتمال الفرص فيه ربما يتساوى مع التهديد مستقبلا ! والان دخلت بقوة على ملف اليمن وقد يطول الاستنزاف والإرهاق وهناك كلام انها تتحضر لضرب ايران … الإنجازات التكتية او العسكرية تجعله يعيش النشوة وتنسيه ان ما بعد المد قد يكون جزر !!! لماذا ؟؟ لان البيئة الاقليمية اليوم تغلب فيها الارادة المقاومة والهوى والقرار الشعبي المقاوم . بيئة يوجد فيها لجبهة المقاومة حضور وعلاقات عميقة وممتدة في كل مجتمع ومتشابكة عمدت بالدم وبوحدة الهدف والقضية بمواجهة الهيمنة الأمريكية الغربية والصهيونية .
لذلك لن نكون بعيدين زمانيا عن توسع جبهات المقاومة وتعقدها على إسرائيل وبدء رد الفعل التاريخي .
ان العدو يخطو خطوات ويفترض ان ما يقوم به يحقق ضمانا له لكن قد يكون العكس هو ما سيحدث ! . وهو ما يجب مراقبته والتأثير في صناعته بحيث نحول كل ساحة من ساحاتنا لساحة مقاومة واستنزاف للعدو لنشكل سوية ويدا بيد جبهة مقاومة فعلية تعتمد على ذاتها وعلى استقلال قرارها وقدراتها في كل جغرافيا وساحة ؛ تحفظ فيها كياناتنا ونتجنب الاصطراعات الداخلية ونولي الاولوية لسيادة البلاد وحفظ الهوية وطرد المحتل ويكون قتالنا بمبررات تامة دينية واخلاقية وسياسية ووطنية وقاونوية ، ولن يتاخر الوقت حتى تكتشف اسراءيل انها استعجلت في التقدير وأخذتها العزة بالإثم والقوة كما حدث عام ١٩٨٢ ، وان خطوتها أعطت مسوغات اكبر واقوى لبدء مرحلة خلق شرعية شعبية حقه في كل دولنا لتحرير الارض وتحرر الانسان ووحدة الكلمة في مواجهة العدو الاول للامة والإنسان والأنظمة الظالمة . فما ضربه الكيان في حربه الاخيرة علينا لا شك انه اصاب خلايا في جسد جبهة المقاومة في لبنان وفلسطين ونعترف بذلك لكنه عجز رغم “فرصة العمر” ان يصل إلى الخلايا الجذعية والنخاع الشوكيّ ونقطة التوازن لهذه المقاومة بل صارت خلايانا الجذعية اقدر على الإنتاج والضخ في الجسد مستفيدة من التجربة ومجددة لها، وتبقى معضلة الكيان دون حل .
كاتب لبناني